الحلقة الأولى
الألفة أو العلاقة الحميمة إحساس غريب ومتناقض، نرغبها ونشتاق إليها بقدر مانخاف منها، نرتب البيت لإستقبالها ونقيم الزينة ونأتى بمهندس الديكور ليضيف لمساته الجمالية، ولكن عندما نسمع دقاتها على الباب، نغلق الترباس من الداخل، ونوصى الخادم بأن يخبر من فى الخارج أن أصحاب البيت قد سافروا بلارجعة، إنها الحميمية التى نضمخ أجسادنا من أجلها بأفخر أنواع العطور الباريسية، وبمجرد أن نلمسها نبحث عن أول برميل جاز لنغطس فيه!.
حيرت هذه الألفة أو الحميمية علماء كثيرين، فالجميع يبحث عنها حقاً ولكن نادراً مايحتفظون بها، ولأن صنع علاقات حميمة هو أول لبنات بناء الحب والجنس فلابد من أن نعرف سبب إنهيارها وتحللها، نعرف أيضاً لماذا تواجه هذه الصناعة بعراقيل ومعوقات تغتالها فى المهد وتسرق من رصيدها ومخزونها حتى تعلن الإفلاس؟.. هل لأن صناعة علاقة حميمة أصبحت صناعة منقرضة كصناعة الطرابيش؟، وكيف تفشل وهى تمنحنا الدفء والثقة والمتعة والقبول والراحة والدعم النفسى؟
بالرغم من إتفاق الجميع على أهمية الألفة والحميمية، إلا أنه لاتوجد لها خطوط واضحة، أو طرق معبدة لنسير عليها حتى نصل إلى العنوان الصحيح، إذن يجب أن نسأل كيف تتم هذه الحميمية؟، وكيف تستمر؟، وكيف تنمو؟، إنها أسئلة مازالت تحتاج إلى إجابة، لكن مالذى يجعلنا نناقش هذه المسألة، مسألة الألفة والحميمية؟، إنه الإرتفاع المخيف والمفزع فى عدد حالات الطلاق والإنفصال التى أصبحت تعد بعشرات الآلاف فى كل عام، والذى أعتقد أن سببه الجذرى هو الفشل الذريع فى خلق هذه الحميمية، ولكى نفهم طبيعة هذه الألفة أو الحميمية، لابد أن نفهم أولاً ماهى وكيف نصل إليها؟، وكيف نحافظ عليها؟، وماهى المشاكل التى تواجهها؟، ولذلك سنناقش هذه التفاصيل ونجيب عليها، وسيساعدنا فى ذلك إعتمادنا على أن التواصل السليم هو الذى ينمى هذه الحميمية، والذى أجبرنا على مناقشة مهارات التواصل والتى ستخدم وتثبت هذه العلاقة.
الحميمية والعلاقات الحميمة
سنستخدم لفظ الحميمية كترجمة لمايذكر فى كتب علم النفس تحت إسم "intimacy" وكلمة "intimacy" مشتقة من الكلمة اللاتينية "intimus" أى الداخلى والعميق.
عرف علماء النفس الحميمية على أنها هى " الطريقة أو السلوك أو العملية التى يشارك فيها شخصان يتبادلان الإهتمام، ويشاركان أيضاً فى تبادل المشاعر والأفكار والأفعال"، وأضاف آخرون بأنها تتميز بالقبول والإلتزام والثقة.
الحميمية ليست مرادفاً للرومانسية أو الحب القوى، لأنه من الممكن أن يقع إنسان فى الحب بدون الإحساس بهذا الشعور، وبدون أن يعبر عما سبق ذكره من مشاعر للطرف الآخر.
الحميمية فى أغلب الأحيان عملية وقتية، كثيراً ماترتبط بمواقف بعينها، يكون فيها الإنسان منفتحاً صريحاً، أو كما نقول على سجيته، حيث يذوب إحساس التوتر والخجل والإلتزام، فمثلاً من الممكن أن يلتقى إثنان فى القطار المتجه من القاهرة إلى أسوان ويجلسان فى مقعدين متلاصقين، ويدور بينهما حوار لتسلية هذا الوقت الجاثم على الصدور، وفى نهاية هذا الحوار يكون قد تعرى كلاهما نفسياً للآخر، وإقتربا بشدة نتيجة هذا الموقف غير المخطط أو المرتب له مسبقاً، ومن الممكن أن يلتقيا ثانية بالصدفة فى مكان ما، ولايتحمل أحدهما رؤية الآخر!.
بنفس المفهوم السابق لانستطيع أن نطلق على لقاء جنسى عابر لفظ "حميم" مع أنه من الممكن أن يكون قد حدث هذا أثناء اللقاء نفسه، ولكن لأنه يفتقر إلى المشاعر التى ذكرناها فى التعريف السابق فلا يعتبر من العلاقات الحميمة.
إذن العلاقة الحميمة علاقة أكثر تركيباً وتعقيداً مما نتخيل، ولكن قبل أن نمضى فى التعرف على طبيعة هذه العلاقات الحميمة، تعالوا معاً نلقى نظرة على جانب مهم يساهم بشدة فى تشكيل هذه العلاقات، وهو العلاقة الحميمة مع النفس، فمن لديه حواجز وأسوار تمنعه من مشاهدة ذاته، ومن أوصد النوافذ أمام الحميمية مع نفسه، لن يستطيع بالتأكيد إقامة علاقات حميمة مع الآخرين.
الحلقة الثانية
الحميمية مع النفس ليست أنانية ولكنها ضرورة
"كن نفسك "
"إعرف نفسك" قالها قديماً فلاسفة اليونان وإعتبروها شرطاً أساسياً من شروط دخول قدس أقداس الفلسفة، ولكننا الآن على يقين من أنها ليست شرطاً أساسياً للتفلسف فقط ولكنها شرط أساسى للعلاقات الحميمة أيضاً.
وإذا كان الفلاسفة قد قالوها قديماً، فقد قالها علماء النفس والإجتماع حديثاً، من أمثال أريكسون فى عام 1963 وروجرز 1972 وولف 1982، فقد إنتهوا فى أبحاثهم إلى نفس النتيجة الهامة وهى أنه لا قدرة لإنسان على إقامة أو بناء علاقات حميمة مع الآخرين بدون أن يكون قد إمتلك مسبقاً ومنذ البداية إحساساً قوياً ومعرفة راسخة بالذات، ودرجة قبول عالية للنفس، مثل هذا الإحساس سيساعدنا على معرفة إحتياجاتنا، ويعيننا على التأكد من مشاعرنا وإبرازها، وبالتالى سيمكننا من المشاركة والتواصل مع الآخرين.
أن تقبل نفسك هذه كلمة السر فى العلاقة الحميمة مع الآخر لأنها تسمح لك بأن تكون نفسك ولست شخصاً آخر تحاول أن تتقمص شخصيته، وإذا كان كبار الفلاسفة قد قالوا "إعرف نفسك" فنحن نضيف "كن نفسك"، كن نفسك بصدق ولا تحاول أن تضع ماكياجاً صارخاً فتبدو كالبهلوان، كن نفسك بصدق ولاتستعير الآخرين أو ترتديهم، فهم سيكونون إما كائنات فضفاضة تسقط منك عند أول بادرة حركة، أو كائنات ضيقة تخنقك وتكبس على أنفاسك فى الشهيق وفى الزفير.
إن لم تقبل ذاتك أو تحبها، أو إذا أحسست بالخجل منها سيصبح من الصعب بل من المستحيل أن تنشئ أو تحتفظ بعلاقة حميمة، مادمت مشغولاً بأن تؤكد للآخرين على أنك شخص جيد، ومادمت محاصراً بالسؤال الخالد "هل أنا إنسان مقبول؟"، ومادمت أيضاً تقسم ليل نهار "والله. على الطلاق ...على النعمة ...صدقونى أنا كويس"، أو فى النهاية وبإختصار مشغول بأن يعرفك الآخرون ويحترموك، وحتى إذا نجح مثل هؤلاء الأشخاص "الموسوسين" فى محاولاتهم، فإنها تأخذ منهم جهداً فظيعاً ووقتاً طويلاً.
نوع آخر من الناس هم "القلقون على" أو "المحبطون من" ذواتهم وأنفسهم، وهذا النوع يتعامل مع مشاعره بطريقة تغلق أو تسد الطريق أمام معرفة الذات، وهم يفعلون ذلك بطرق كثيرة منها مثلاً: تعاطى الأدوية بما فيها الكحوليات للهروب من مواجهة الذات، أو يجلسون أمام التليفزيون فاغرى الأفواه، لكى ينتزعوا أنفسهم من أنفسهم، أى أنهم يقومون بعملية نشل، لكنها ليست نشلاً لمحفظة وإنما نشل للذات، للنفس بموافقة نفس الشخص الذى لا يبلغ قسم البوليس على الإطلاق عن عملية النشل هذه بل يفرح وينبسط و"يطنش"!.
هناك طريقة أخرى يلجأ إليها هذا النوع من البشر، وهى طريقة الإنغماس فى العمل حتى النخاع، تحت دعوى الجدية والإخلاص، وهى فى الحقيقة سلبية وخلاص!، لا تضحك على نفسك إذا كنت من هذين الصنفين السابقين وتقول: "لا بالرغم من ذلك أدخل فى علاقات"، لأنه ببساطة دخول بغرض حمايتك بواسطة الآخر أو تسليتك من خلاله، وهذا بالطبع حل مؤقت ومزيف وخادع.
لكن هل يعنى ذلك أن كل شخص لابد أن يكون سعيداً تماماً بنفسه، راضياً عنها و"منشكحاً" تمام "الإنشكاح" حيال أفعالها وصفاتها؟، بالطبع لا، فكل واحد منا إذا نظر إلى أعماق ذاته بقليل من الصدق لن يرضى عما فى داخل هذه الأعماق، ولكن مانقصده هو أن نقوم بعملية غربلة مستمرة نفصل فيها ما نحبه فى ذاتنا عما نكرهه فيها، ونحاول أن نتغير، هذا هو الفرق الجوهرى، فحين تقف عجلة هذا التغيير وتصدأ تروسها يكون المرض، ولا يكفى أن ترفض ثم ترفض ثم ترفض، ولكن إرفض ثم تمرد ثم قم بالتغيير.
فى النهاية يحذرنا علماء النفس تحذيراً هاماً، وهو أننا لابد أن نحتفظ بجزء ما من ذواتنا أو إحساسنا بالذات، حتى لو إنغمسنا فى علاقة حميمة مع الآخر، وينصحوننا بألا نكون منشغلين بهذه العلاقة لدرجة تسرق الإحساس من أناملنا فلا نستطيع حتى أن نتعرف على أنفسنا لأن الضوء المبهر لهذه الحميمية فى بعض الحيان يعمى الأبصار والبصائر.
العلاقة الحميمة التى تمتص معظم وقتنا وجهدنا وتستنزف عواطفنا من الممكن أن تكون مبهجة نوعاً ما أو ممتعة لدرجة ما، ولكنها تترك وقتاً ضيقاً جداً للتعرف على النفس، وتدع ثقباً كـ "خرم الإبرة" ليطل منه الإنسان على ذاته، هذه العلاقة الحميمة التى أسميها علاقة "ورقة النشاف" والتى تمتصك كلك، هى علاقة مدمرة أكثر منها علاقة خصبة، وعلى العكس من العلاقات الحميمة التى تساعدك على قبول ذاتك ومعرفة نفسك أكثر، تلك هى التى تكون العلاقات السليمة الصحية المبشرة.
الحميمية مع الآخر
الحميمية ليست واحداً صحيحاً لا يقبل القسمة إلا على نفسه، بل هى أجزاء ومكونات وعناصر، لا نستطيع تقسيمها على حسب درجة شدتها أو قوتها فحسب، بالمقارنة مع علاقة أخرى، ولكن فى نفس العلاقة من الممكن أن تختلف درجة الحميمية من حين إلى آخر، تتذبذب كبندول الساعة تبعاً لتوقعات كل طرف عن مشاعر الطرف الآخر، وطبقاً لآمال كل منهما فى الآخر، ففى بعض الأحيان يتعامل الشخص مع العلاقة كموظفى المصالح الحكومية الذين يعانون من مرض الإضطهاد المزمن، يسخطون دائماً، ويمارسون فى وقت الفراغ مزيداً من السخط، هذا الشخص يحس على الدوام أن هذه العلاقة ليست عادلة، والأحاسيس فيها من جانب واحد، ويظل يبحث عن هذه القسمة المتساوية للأبد وينشغل بها ويفقد القدرة على المتعة والإمتاع، على العكس من الأشخاص الذين يرون دائماً أنهم يعيشون علاقة متوازنة، فهؤلاء بالفعل هم الأكثر رضا وسعادة .
بالطبع هذا الكلام لا يعنى أننا نغفل تأثير الظروف الخارجية والأجواء المحيطة التى من الممكن أن تساعد على إحباط العلاقة، مثل البعد الجغرافى أو المكانى، وأيضاً ضغوط العمل التى تحول مؤقتاً الإهتمام وتستنفذ طاقة الشخص بعيداً عن حقيقة العلاقة إلى أوهام أخرى.
لكى نفهم الحميمية أكثر لابد أن نفهم ونختبر عناصرها الأساسية، مثل الإهتمام والمشاركة والثقة والإلتزام وغيرها، مما سيساعدنا فى فهم سر هذه العاطفة، ولكن هل توجد هذه العناصر منفردة ومعزولة عن بعضها البعض؟، بالتأكيد لا، فالحميمية سبيكة مكونة من عدة معادن، أقصد مشاعر كل منها متفرد عن الآخر ولكنه يقوى الآخر ويزيد من صلابته، وبالتالى من صلابة السبيكة كلها.
الإهتمام والمشاركة
الإهتمام موقف وشعور إيجابى تجاه الآخر، ومن الممكن أن تهتم بشخص ليست لك معه علاقة شخصية مباشرة، على سبيل المثال إهتمامك بمن ينتظر معك الأتوبيس على المحطة، أو يشاركك نفس "الترابيزة" فى قاعة الإطلاع فى المكتبة، هذه الإهتمامات ليست هى المقصودة فى العلاقة الحميمة، إنما المقصود هو الإهتمام والعناية التى تحدث حينما يتفاعل إثنان فى علاقة مشتركة، لأن الإهتمام الأول يشبه إهتمام جندى أمام خريطة للمواقع العسكرية المطلوب منه تدميرها، أما الإهتمام الثانى فهو إهتمامه بالهجوم والدفاع داخل هذه المواقع نفسها!.
لكى يتحقق هذا التفاعل مابين الأفكار والمشاعر والخبرات، هذا التفاعل الذى يخلق الحميمية وينميها، لكى يتحقق هذا لابد من بذل بعض الجهد والوقت لتعلم فن معرفة الآخر.
معرفة الآخر فن، والفن حر لا يعرف القيود أو العوائق التى نضعها حول أنفسنا، ونكبل بها أيدينا وأرجلنا وأعناقنا بل وأرواحنا بإسم حماية خصوصيتنا، وأول دروس هذا الفن وأغلاها قيمة وأكثرها نفعاً هو كشف الذات وتعرية النفس، إنه" الإستربتيز" الوحيد الذى لا نطلب له بوليس الآداب أو شرطة السياحة، إنه القرار والإرادة فى أن تخبر شخصاً آخر بما فى عقلك وقلبك، أن نهاجر من جزر الخرس التى تمنحنا إحساساً مزيفاً بالأمان لكى نسكن مدينة المكاشفة، هى مدينة مزدحمة حقاً، فيها فضول الجيران حقاً، تعلو فيها "كلاكسات" التساؤل والإقتحام حقاً، ولكنها مدينة حية، ولكى يتحقق الإهتمام الحميم لابد أن تشد رحالك إلى هذه المدينة. مدينة المكاشفة، حيث تصبح كوكباً بلا غلاف جوى، حيث تصبح إنساناً مخروم الأوزون!!!!.
الحلقة الثالثة
يظل العمل الوحيد والشغل الشاغل لمصلحة الأرصاد العاطفية فى أى علاقة هو قياس درجة حرارة الثقة وإتجاه رياحها، فالثقة تمنح الدفء، وبدون الثقة يكون الموت فى البرد القارس.
المكاشفة لا تخلق فى فراغ أو تتحرك فى فضاء فسيح، وإنما تعتمد فى تحركها أو نموها على درجة الثقة المتبادلة التى تشجع أى طرف على أن يتعرى نفسياً، دون أن يخاف من أن يفشى الطرف الآخر عيوبه أو يكشف عوراته، ولكى تتحرر من الرداء المصنوع من الجبس والذى يكبت مشاعرك، لابد أن تثق فى أن الآخر لن يشرح إلى أى مدى تضخم كرشك، أو تقوس ظهرك، أو تجعد جلدك، أو ترهلت عضلاتك!، ولكن سيشرح فقط كم كنت إنساناً ورفيقاً ممتازاً.
بمثل هذا يكون الإهتمام والمشاركة، فالثقة تحتاج إلى بناء مشترك وتنمو مع الزمن، والثقة تتحول من سائل هلامى ليس له قوام إلى مادة صلبة بمعادلة بسيطة جداً، وهى ألا تكون كائناً صوتياً فقط، أو حنجرة "طلع" لها بنى آدم، فأن تتكلم وأن تعد يعنى أن تنجز، وأن تعديه بألا تضحكى على أسراره القديمة أو تفشيها يعنى أن تفعلى ذلك، هنا ينتفى الخوف، ويختفى شبح التوجس إلى غير رجعة، فالعلاقة التى يتضخم فيها التوجس والشك، والتى يفتتح كل طرف فيها سفارة عند الطرف الآخر ليتبادل فيها التمثيل الدبلوماسى، ويكون فيها كل أعضاء السفارة جواسيس وأفراد مخابرات، هذه العلاقة لن تصبح حباً بل ستصبح "تلكيكة"!
الإلتزام
عنصر آخر من عناصر تكوين العلاقة الحميمة، عنصر هام، لكنه ثقيل الدم على قلوب معظم المحبين، إنه الإلتزام الموجود دائماً بين سطور الكلام، المفقود دائماً فى أفعال الأنام!.
الإلتزام فى علاقاتنا العاطفية عنصر هام حقاً، ولكنه كالفقيد المرحوم فى الجنازة، الكل ذهب ليشيعه، والجميع يتحدثون عن كل شئ، وفى كل شئ إلا سيادة المرحوم، وفى سرادق عزائه الذى هو أفضل الأماكن لممارسة النميمة، ينساه الجميع، ويتحدثون فى شئونهم الخاصة، بل ويضحكون فى بعض الأحيان.
الإلتزام ضرورى للحفاظ على الحميمية خلال أوقات الهزات التى تعترى العلاقة خلال الملل والإحباط والإجهاد وكل ما من شأنه أن يتسبب فى إرتباكها، كما هو ضرورى أيضاً خلال أوقات المتعة والبهجة والإثارة، الإلتزام ببساطة عدو المثل الشعبى "فى الفرح منسيين، فى الحزن مدعيين".
لكى لا يصيبك الإحباط والزهق خوفاً من هذه المهمة الثقيلة التى يسمونها الإلتزام، عليك أن تفكر فيه بالنسبة للحظة الحالية، وليس للمستقبل البعيد حتى لا تضاعف المسئولية، فعلاقة الحب الحميمة بها بعض الفوضوية التى قليل منها يصلح الحال.
الإلتزام نظام صارم وعهد ووعد حاسم، فالملتزم يأخذ شيكات على نفسه، ويطالبها بالسداد فى مواعيد محددة مسبقاً، ولذلك فالعلاقة الحميمة الناجحة هى التى تستطيع أن تصنع هذه الطبخة الجميلة من الإلتزام بإضافة القليل من بهارات الفوضوية والإستقلال، التى بزيادتها يكون الأكل حراقاً، وبقلتها يصبح فاقداً لأى طعم.
عناصر الحميمية الأخرى
الأمانة عنصر هام آخر من عناصر تكوين العلاقات الحميمة، ولكن الأمانة الزائدة عن الحد ستنقلب حتماً إلى الضد، فالأمانة الكاملة والمكاشفة على البحرى هى ألغام تدمر أى علاقة، ولابد أن توارب باب خزانتك التى تحتفظ فيها بأسرارك ولاتعطى أرقامها السرية للطرف الآخر، وتعلم كيف توصل رسالتك مع الحفاظ على بعض السطور مكتوبة بالحبر السرى، لأن هناك فرق واضح بين الحفاظ على بعض الأشياء والأسرار الخاصة وبين الخداع، الخداع شئ تشارك فيه بإيجابية، تغير فيه وتبدل، وتضيف وتحذف، والإنسان إذا خادع فى علاقته وإكتشف الآخر هذا الخداع فمهما أثبت هذا الإنسان حسن النوايا فإن الثقة ستكون قد تاهت فى دروب هذا الخداع، لذلك يكون إطلاق الأكاذيب أكثر ضرراً وتخريباً من الإحتفاظ بالخصوصيات، وإذا سألك رفيقك عن شئ تحس أنك لن تستطيع مناقشته بصراحة وأمانة فلتقل دائماً: أنا لاأريد مناقشة هذا الموضوع، بدون أن تنتهك ثقة هذا الرفيق.
الأمانة شئ مطلوب، أما الأمانة الكاملة فشئ مستحيل، فلا تطمح إليها وتطالب بها وإلا لأصبحت مثل المخرج الذى يطلب من بطل فيلمه موتاً واقعياً، ويصرخ فيه إضرب نفسك بمسدس حقيقى عايز الجمهور يصدق إحساسك!!
نأتى إلى دور التعاطف فى خلق الحميمية، والتعاطف هو القدرة على أن تفهم وتتعامل مع مشاعر الآخر ووجهات نظره، ولكى تحدث المكاشفة المطلوبة التى تحدثنا عنها لابد أن يحس كل فرد بأنه ينصت إلى كلامه أو كلامها، وأن يفهم هذا الكلام أو على الأقل يقبل بواسطة الآخر، وسوف يؤدى هذا التعاطف إلى مساعدة كليهما فى دعم ومساعدة الآخر وتجنب تدميره وإستفزازه.
أهم ما ننساه ونهمله ونغتاله باللامبالاة برغم أنه واحد من أهم عناصر أو خيوط نسج العلاقات الحميمة، فهو التعبير عن الحنان فنحن وبجدارة وخاصة الرجال لانستطيع التعبير أو ممارسة الحنان، إننا نراه ترفاً أو عيباً أو حراماً أو إهانة.
الحنان من الممكن أن يعبر عنه بالكلمة أو باللمسة، أن تحتضن اليد اليد وتبثها نجواها، أن تربت الأصابع وهى منتشية على الخد الذى ينتظر لمسة البهجة، أن تطبع القبلة التى تتخاطب فيها الشفاه بلغة سحرية، ليست لها مفردات أو قاموس أو مترادفات، اللغة التى ليس لها صوت ينتقل فى الفراغ، هنا فى القبلة تتمرد اللغة على الفراغ، تذوب المسافات والحدود، وأن يتم العناق حيث التشبث بالحبيب طلباً للدفء، للأمان، للإطمئنان، للتواصل، للنشوة.
لا تعتبر أيها الرجل تعبيرك عن الحنان إنتقاصاً من قدرك، لا تعتبره تصرفاً غير رجولى، بل هو قمة التقدير والرجولة، وتذكر أن هذا التعبير كلامى وجسدى، وأن التعبير الكلامى ليس أقل على الإطلاق من التعبير الجسدى عن هذا الحنان، ليس ضرورياً أن يكون تعبيرك الكلامى مستوفياً لشروط النحو والصرف والبلاغة، ولكن من الضرورى أن يكون مستوفياً لشروط التعاطف والتواصل والحميمية.
الحميمية لن تخلق مع شخص يخفى مشاعره على الدوام، الحميمية لن تصنع فى كيان شخص أستاذ فى فن الحجج أو "اللوع" الذى هو أعظم كتاب على الأرض على رأى عمنا صلاح جاهين.
الحميمية خصم عنيد لمن يبخل بعواطفه ويضعها فى "صرة" ويخفيها فى "السحارة" أو تحت البلاطة، الحميمية ملك لمن يصرف مافى الجيب _ أقصد مافى القلب- ليأتيه مافى الغيب وهو الحب.
الحلقة الرابعة
هل المرأة أكثر حميمية أم الرجل؟
من هو الأكثر حميمية الرجل أم المرأة؟، سؤال صعب إحتاج إلى أبحاث كثيرة ومجهدة للوصول إلى إجابة عنه، عشرات وعشرات من علماء النفس حاولوا الوصول إلى شاطئ اليقين، ولكن أمواج الشك ماتزال حتى الآن تغمر الجميع وترفض أن تبوح إلا ببعض الأصداف والرمال.
توصلت دراسات كثيرة إلى أن النساء عموماً أكثر قدرة على المكاشفة من الرجال (ومنها دراسات ماركل وفيشر ورينبارك ولونج...)، كل هذه الدراسات تجمع على أن الفتيات والنساء يصارحن أصدقاءهن أكثر مما يفعل الأولاد والرجال، وأكثر من ذلك فإن الفتيات أسرع وأمهر فى تكوين الصداقات من الأولاد، كما أثبتت دراسات ماكوبى وجاكلين فى بحثهما الذى تم نشره 1974، وقد أثبتت الأبحاث أيضاً أن النساء أسهل فى تكوين العلاقات ومنحها صفة العمق أكثر من الرجال.
لكن أبحاثاً أخرى على نفس المستوى من الجدية والإهتمام أثبتت أن الفروق طفيفة لاتكاد تذكر بين الإثنين، ومن أهم هذه الأبحاث البحث الذى أجراه روبين وزملاؤه 1980 على 231 علاقة بين شباب الجامعة، وحاول أن يحدد فيها نسبة المكاشفة فى الرجل والمرأة، وأيهما يتفوق على الآخر، وقد إنتهت الدراسة إلى أن 75% من كل جنس قد كاشف الآخر عن خبراته الجنسية السابقة، و73% من الرجال و 74% من النساء قد كاشفوا عن إحساسهم الجنسى الحالى تجاه بعضهم البعض، و48% من الرجال و 46% من النساء أعطى رفيقه الآخر آراء أمينة عن مستقبل العلاقة.
لاحظ العلماء الذين أجروا البحث إختلافات غير ملحوظة بين الجنسين فى نوعية المكاشفة، فعلى سبيل المثال النساء أكثر مكاشفة فيما يختص بالمخاوف والهواجس والمشاعر تجاه الحبيب، بينما الرجال أكثر مكاشفة فيما يختص بالأشياء التى يفتخرون بها أو يحبونها فى رفيقاتهم!، لكن الأبحاث تعود ثانية إلى إثبات أن الرجل يخاف من القرب الحميم على عكس المرأة (بحث كابلان 1979 وشوارتز 1983)، هذا الخوف أثبته العلماء حتى فى العلاقات الشاذة، فالمثليات من النساء أكثر حميمية من المثليين الرجال ( روبنز 1973) لكن علامة الإستفهام التى تفرض نفسها هى كيف نفسر مثل هذه الإختلافات؟
أولاً: هذه الأبحاث تركز فقط على الجانب الكلامى فى العلاقات الحميمة، وتتجاهل الحميمية كعلاقة مركبة نامية مع الوقت وجهد الطرفين، وأرض النمو هذه تروى بمياه أخرى غير مياه الكلام، وهى مياه الإقتراب الجسدى والإهتمامات المشتركة التى تتفوق فى بعض الأحيان على مباريات الكلام" البنج بونج" الساخنة.
ثانياً: إذا إتفقنا مع تلك الأبحاث التى تثبت أن المرأة أكثر حميمية من الرجل - وأنا شخصياً أتفق معها - فإن ذلك يرجع إلى الإختلافات المبدئية التى خلقها المجتمع عبر العصور بين الرجل والمرأة فى هذه الناحية وهى مهارات إقامة العلاقات الحميمة، فالمرأة بصورة عامة قد تعودت أن تظهر مشاعرها وألا تخفيها وألا تحس بالخجل وهى تعلنها بل فى أغلب الأحيان يصبح هذا الإعلان نقطة لصالحها، وميزة تضاف إلى ميزاتها أو ثروة تضاف إلى رصيدها، بينما يلقن الرجل منذ طفولته بأن الرجولة هى كتم المشاعر وإخفاء العواطف، أى بإختصار النساء تعبر والرجال تكبت، أو كما يقولون بالإنجليزية " women express , men supress بالإضافة إلى أن المرأة منذ طفولتها تؤمن بفضيلة اللمس، فالكل يربت عليها بحنان، ويداعب خصلات شعرها، ويقبلها كطفلة ومراهقة، أكثر من الطفل أو المراهق الذكر، لأننا للأسف نربط مابين أن نلمس إنساناً برقة وبين أنه صعبان علينا أو "غلبان".
ثالثاً : ساعد على إنخفاض نسبة الحميمية عند الرجال كونهم ضحايا "التستوستيرون"، هذا الهورمون الذكرى المسئول عن الذقن والشنب وأيضاً دور الرجل الحمش، وقد ساعد على هذا إذكاء قيم التنافس والعدوانية التى شجعها مجتمعنا فى الرجال، وشجع إلى جانبها قيم الإحتضان والحساسية فى النساء.
تلخيص هذه المتاهة البحثية فى كلمات الباحثين روبنشتاين وشيفر 1982 حين كتبا "الرجال مستفيدون من العلاقات الحميمة أكثر منهم واهبين لها".
· مشاكل الحميمية :
تقابل العلاقات الحميمة ومحاولة إقامتها العديد من المشاكل يمكن حصرها فى ثلاث عناوين كبيرة هى العوائق التى تواجه الحميمية، والخوف من الحميمية، والحميمية المزيفة أو الكاذبة.
لسوء الحظ فإن الغالبية العظمى منا لاتستطيع الدخول فى علاقات حميمة بسرعه، ويظل قرار الدخول فى العلاقة الحميمة ليس قراراً سهلاً أو مبهجاً لهذه الغالبية بل يعتبرونه بمثابة "توريطه"، فالعلاقة الحميمة عندنا هى أغرب مسرحية قدمت على خشبة المسرح، وفصولها الثلاثة مدتها قصيرة جداً، أما معظم نسيجها الفنى أو ما يستنفذ وقتها فهى الدقات الثلاث الشهيرة ثم ترفع الستار، هذا هو كل ما يستهلك جهد الفنيين وطاقة الممثلين وتركيز الجمهور، لكن ماهى الأسباب التى تجعل من الصعب علينا أن نبدأ أو أن نحافظ على العلاقة الحميمة، وماهى هذه العوائق؟، سنحاول تلخيصها فى النقاط الست التالية:
· 1-الخجل:
أول مسمار فى نعش الحميمية هو الخجل، الخجل الذى يجعل المحب منعزلاً فى برجه العاجى الضيق، متجنباً التفاعل الإجتماعى، فهو فى منطقة عسكرية مغلقة، مغروس فيها لافتة "ممنوع الإقتراب والتصوير".
والتناقض الفظيع الذى لايستطيع حله الخجول هو أنه يتحرق شوقاً للعلاقات الحميمة، ولكنه لا يستطيع أن يأخذ المبادرة أو يتحمل المخاطرة، أو يتغلب على هذا الوحش الداخلى الرقيق والمهذب!، إنه يريد أن يحب بالريموت كنترول، والحب والحميمية والتلاحم الوجدانى لا يمقت شيئاً مثلمل يمقت الريموت كنترول.
· 2- العدوانيه:
عندما تتصرف بعدوانية ستجعل الجميع ينفض من حولك وستجبر الآخر على أخذ موقف الدفاع، ستكون كالقط حين يتنمر ويقوس ظهره وتنتصب شعيراته، حينها سيتجنبك الرفيق حتى لاتصيبه خربشاتك، ولذلك فلابد من تخفيف نبرة العدوانية فى أوركسترا الحميمية حتى يحدث الهارمونى والإنسجام.
· 3- الإهتمام بالذات :
"مركز الكون يبدأ من هنا حيث أوجد وأتنفس"، عندما يقول إنسان هذه الجملة متمركزاً حول ذاته، إذن فهو يباعد نفسه عن إقامة علاقات حميمة بمسافة تقدر بالسنوات الضوئية.
هنا توجد نقطة هامة للتفرقة ما بين الإهتمام بالذات والأنانية التى سنتحدث عنها فى النقطة التالية، فالإهتمام بالذات ليس فيه أى تعمد للأذى بل هو نتيجة لا مبالاة، وهذا السلوك يخلق فرداً يعشق المونولوج ويتحدث وكأنه يخطب فى "غيط كرنب "، إنه يندفع فى الكلام ولاينتظر رداً، الأسئلة والإجابات فى فمه وعلى لسانه هو فقط، إنه لا يحقق مايريده محبوبه إلا فى حالة واحدة فقط وهى التطابق والتوافق مع مايريده هو فقط.
· 4- الأنانية :
هنا دخلنا فى منطقة أكثر عمقاً وألماً من المنطقة السابقة، هى أكثر عمقاً لأن درجة حب الذات فيها أكثر، وهى أكثر ألماً لأن الأنانى يدمر العلاقة بإرادته ومزاجه، إنه يخطط ويضع تكتيكات وإستراتيجيات للسيطرة على الآخر لحسابه ولايهمه كيف تتطور العلاقة أو تتحسن الحميمية، ولكن مايهمه هو كيف يستفيد من الطرف الآخر، إنه كالفيروس الذى يسيطر على الخلية ويأمر نواتها بأن تصنع له الغذاء والكيان والحياه على حساب حياتها ووجودها، فنفخ الروح فيه لابد أن يكون من جثث الآخرين.
· 5- فقدان التعاطف:
الشخص الذى لايستطيع قبول وفهم وجهات نظر أخرى أو أفكار ومشاعر أخرى، يحتاج إلى وقت طويل وجهد عظيم لكى ينشئ علاقة حميمة، مثل هؤلاء الأشخاص دوماً يضعون القطن فى آذانهم ولو كانوا يملكون الجرأة التى تمكنهم من قطع العصب الثامن.. عصب السمع لفعلوا، إنهم يضعون المتاريس أمام أقوال الطرف الآخر، وهم أفشل "بوسطجيه" على وجه الأرض، لايستقبلون أى رسالة وبالتالى لايستطيعون إرسالها، وجوههم كوجوه لاعبى البريدج حين تأخذهم سخونة اللعب، أناملهم باردة كأنامل سكان سيبيريا، قلوبهم لا تنبض كجثث المشرحه!
· 6- التوقعات غير الحقيقية:
الصراع بين الواقع والخيال، جملة طالما سمعناها من الكتاب والنقاد الكبار خاصة على شاشة التليفزيون، فهى أسهل الحلول للهرب من أى سؤال، ولكنها بالنسبة للعلاقات الحميمة أصعب المشاكل التى تواجهها، فالشخص الذى ينظر إلى العلاقة بمثالية وينتظر من الآخر المستحيل يقع فى هوة الإحباط، ومن الممكن جداً أن يقلع عن الإستمرار فى هذه العلاقة، فحينما يدخل طرف العلاقة منتظراً من الآخر الصحبة والتسلية، بينما يتوقع الآخر منه تواصلاً فلسفياً وذكاء ألمعياً، يصبح الأمر كمن أعطى ميعاداً لشخص فى شبرا فذهب إليه عن طريق حلوان !.
الحلقة الخامسة
من يخاف لا يستطيع أن يبدأ، ومن لا يستطيع أن يبدأ فهو بالقطع لا يستطيع أن يبنى، هذه أولى المشاكل التى تواجه الحميمية، فالخائف من إقامة علاقة حميمة شخص عديم الثقة، خائف على الدوام من الرفض، وأيضاً من فقدان السيطرة على محبوبه وعلى نفسه.
هذا الخائف دائماً المرتعش طول الوقت يرى نفسه فى مرآة مشروخة، عنده إقتناع راسخ بصورته السلبية بأنه ليست له قيمة، والسؤال الخالد الذى يطرحه هذا الشخص على نفسه دائماً هو لماذا يهتم بى الآخرون إذا كنت أنا لا أستحق الإهتمام أصلاً؟، ويكون الرد على كل إحساس جميل يقدمه الأخرون له "مش معقول"... "مش ممكن"، هذا المش معقول والمش ممكن هما وصف لهذا الإحساس ولصاحب هذا الإحساس وذات الشخص نفسه.
إنه كما قلنا غير واثق، وخائف من الرفض نتيجة لإنعدام هذه الثقة، ولذلك فإنه يتجنب الخوض فى أمواج هذه العلاقات الحميمة، ويفضل دائماً أن يسبح على الشاطئ فى علاقات سطحية إيثاراً للسلامة حتى لا يتعرض لمخاطر الإلتزام الثقيل على القلب والسباحة المجهدة للبدن، وهو يصل إلى حل غريب جداً، فلكى يتجنب الأذى لا بد له من أن ينعزل عاطفياً، إنه يدخل "الحجر الصحى" بملء إرادته خوفاً من إنفلونزا الحميمية الآسيوية، بل إن بعضهم يصنع مفتاح ال volume الذى يصنع للتليفزيون لكى يتمكن من ضبط سيطرته على العلاقة فى أى وقت، وإذا زادت الحميمية وتطور القرب، نجد هؤلاء مترددين ويحاولون الهرب إما بالإنغماس فى العمل، أو تغيير دفة الأحاديث والعلاقة إلى ناحية أخرى، إنهم يحاولون معادلة العلاقة الحمضية بأى سائل قلوى حتى تهدأ مخاوفهم، ويحافظون عليها تحت السيطرة.
كتبت الطبيبة النفسية الشهيرة "كابلان" عن هذا الخوف قائلة:
"الطرفان يشتاقان إلى القرب الحميم ولكن عندما يصلان إلى نقطة القرب هذه يصيبهما القلق، ولذلك سيبادر طرف منهما بوضع مسافة حين تطول أو تبعد تحدث الراحة، وحين تقصر أو تقرب يحدث القلق، إنهما سيتحركان بالضبط مثل أرجوحة الميزان التى يستعملها الأطفال، طفل يعلو وطفل يهبط إلى أن يضبط المسافة المناسبة التى تحدث التوازن المطلوب".
هذا الخوف من العلاقات الحميمة للأسف فى بعض الأحيان يظل طوال العمر، وهنا قد تعكس حادثة فى الطفولة - خاصة فى العلاقة مع الأبوين - تأثيراً على العلاقة، وبالطبع تكون هذه الحادثة مؤلمة، ولكن لحسن الحظ معظم حالات الخوف من الحميمية مؤقت، ومن الممكن أن يذوب بمجهود من الطرفين.
الحميمية المزيفة
الحميمية كالدولار من الممكن - بل من المغرى - أن تزيف، ومن السهل تزويرها بحيث لا يكتشفها أكبر خبراء المعمل الجنائى للعلاقات العاطفية، ولكى نستطيع التفرقة بين الحميمية الصادقة والحقيقية، وبين الحميمية المزيفة علينا أن نقرأ هذه النقاط التى وجه أنظارنا إليها علماء النفس فيما يخص الحميمية المزيفة:
· يستمع الشخص حقاً إلى إحتياجات الطرف الآخر، لكن بدون أن يتقدم خطوة فى سبيل تحمل مسئولية تلبية هذه الإحتياجات.
· توجد هوة شاسعة بين ما يقال وما يفعل.
· الثقة المتبادلة مفقودة فيما بين الطرفين.
· الإلتزام من جانب واحد فقط أو ما نصفه بأنه إلتزام خادع
· يتصرف طرف بطريقة أنانية، أو على الأقل لا يبدى إهتماماً بأن يعطى أو يمنح.
· التواصل أحادى الجانب، يأخذ شكل المونولوج وليس الديالوج.
· العلاقة بينهما عبارة عن أوامر وإنتقادات لعدم تنفيذ أو إتباع هذه الأوامر.
· تستنفذ الصراعات والطموحات المدمرة الوقت والجهد حتى تتقلص المساحة المتاحة لأى قرب أو تواصل.
**ليس كل ما سبق روشتة فيتامينات للحميمية، إنما هى مجرد محاولة لفهم هذه التركيبة المعقدة من المنح والأخذ، العطاء والحصول، التمنى والتأنى... تمنى لأن تصل العلاقة إلى الذروة، وتأنى فى الغضب والخوف حين تصل إلى هذه الذروة.